“سبيل ياعطشان”، “الجنة والمغفرة ياصاحب السبيل”، “العوض على الله، على الله العوض”.. تخيل روعة المشهد لو كنت تسير في شوارع مصر القديمة قبل العصر الحديث ومن كل الإتجاهات تأتيك تلك النداءات، إنها نداءات العاملين في سقاية المياه، أو المهنة التي يُطلق على صاحبها “السقا”. مهنة السقا مهنة لها قواعدها وأصولها وشروطها، فليس من السهل أن تمتهنها أو تحصل على تصريح لممارستها، أو كما يقول المثل الدارج “ماتبيعش المية فى حارة السقايين”، إذاً دعونا نعرف أكثر عن حكايات السقا والسقايين.
بداية المهنة:- بدأت مهنة السقا في مصر منذ عهود قديمة، وذلك قبل إنشاء شركات المياه، ومهمة السقا أن يحمل المياه النظيفة من الخزانات أو من نهر النيل ويقوم بتوزيعها على المنازل والمساجد والأسبلة، أو يقوم ببيعها في الشوارع،لذا إنقسمت مهنة السقا إلي:
سقاء الجمال:- وهو الذي يقوم بحمل المياه على ظهر الجمال من مصدرها ثم يقوم بتوزيعها.
سقاء الكيزان:- وهو الذي يبيع الماء في كيزان نظيفة يقوم بتعطيرها بالبخور ويقدمها للمارة في الطريق.
سقاء القرب:- وهو الذي يحمل القرب المصنوعة من جلد الماعز على ظهره وينقلها إلى حارة السقايين أو باب البحر وكان يحرص على تزيين قربته.
و يذكر التاريخ أن دار (عبدالعزيز بن مروان) الوالي على مصر في العهد الأموي، كان يحمل إليها نحو أربعمائة رواية ماء في كل يوم. إذاً ما هى الشروط التي لا بد من توافرها في الشخص حتى ينال تلك الوظيفة؟ لم تكن تلك الوظيفة تسند لأي شخص، فكان لا بد من إختبارات معينة تثبت قوته وقدرته على حمل أوزان ثقيلة من المياه ونقلها، لذلك كان إختبار التقدم لتلك الوظيفة عبارة عن قربة من المياه تزن 67 رطلاً من المياه ويقوم الرجل بحملها لمدة ثلاث ايام دون راحة فإن إجتاز هذا الإختبار حاز الوظيفة، وقد ينطوى وصف المؤرخين على إختبار التقدم للوظيفة على شىء من المبالغة، لكنه في نهاية المطاف يؤكد أن إختيار السقا كان يتم من خلال عملية دقيقة وصعبة، من ضمنها توقيع الكشف الطبي عليه. وفي عام 1877 كان السقا يحصل على رخصة لمزاولة المهنة، يدون على الرخصة اسم السقا وإسم المدينة وطوله ولون عينيه وجنسيته ومكانه.
باب البحر:- في عام 569هـ قام السلطان صلاح الدين الأيوبي بإنشاء بوابة تطل على نهر النيل بالقرب من باب زويلة، ولأن مهنة السقايين تتصل مباشرة بماء النيل فلقد سكنوا بالقرب من بوابة باب البحر، وسميت الطائفة التي تسكن هناك بطائفة باب البحر، وكان هناك أيضاً طائفة حارة السقايين، وطائفة قناطر السبع.
قواعد الحصول على المياه:- وكان الحصول على المياه من نهر النيل يلزمه إتباع قواعد معينة، أولها أن يرتدي السقا سروالاً قصيراً ونظيفاً، وعليه الا يجلب المياه من البر أو أماكن سقاية الحيوانات والطيور، لكن عليه أن يصل إلى داخل النهر حتى يأتي بالماء النقي، وكل سقا لا يحصل على أكثر من 24 دلو من المياه، والدلو لايزيد عن 24 رطلاً في اليوم الواحد، ولابد أن تكون قربته وأوانيه نظيفة فإن لم تكن يعرض نفسه للعقاب.
مهن أخرى للسقاة:- لم تكن سقاية المياه وتوزيعها على الأحياء هي المهمة الوحيدة للسقاة في مصر القديمة، لكن الدولة إستخدمتهم كرجال إطفاء للحرائق لقدرتهم وسرعتهم على جلب الماء إلى مكان الحريق. كما أنهم كانوا يقومون برش الشوراع بالمياه كي تهدأ من درجة الحرارة وانتشار الغبار.
كيف إستخدمت النساء السقايين:- لأن السقايين يدخلون إلى كل البيوت ويتعاملون مع ربات البيوت والنساء، فكان عليهم إتباع قواعد صارمة تبدأ بعدم رفع أعينهم عن أقدامهم، وألا يطيلوا الحديث مع النساء. لكن النساء إستطعن إستخدام السقايين كرسل بينهم، ففي كتاب وصف مصر ذُكر الآتي “أما السقاة فهم علي نحو ما رسل الحريم ( أي النساء ) وينتهي بهم الأمر بأن يكونوا أموالاً من الحريم والنساء وهن اللائي يخترنهم ويتبادلنهم فيما بينهن ويتمتع هؤلاء الخدم عامة بحظ أوفر من الآخرين ويوليهم أرباب البيوت أكبر قدر من الرعاية وتبسط النساء عليهم حمايتهن ويحرصن علي راحتهم “. أخذت مهنة السقا في الاحتضار بالقاهرة عام 1865م، حينما أنشئت شركة المياه وبدأت في إنشاء آلات الضخ والأنابيب التي توزع المياه داخل مدينة القاهرة، ولكن مازال السقا موجوداً بصورته ولم يختف نهائياً، وإن كانت قد تطورت وسائل السقاية، فلم تعد القربة القديمة المصنوعة من جلد الماعز، بل أصبحت فناطيس معدنية ومكعبات بلاستيكية وجراكن، محمولة على أكتافهم أو براميل على عربات الكارو التي تجرها الخيول والحمير، يملؤها السقا الحديث من حنفيات المياه، لكي يوزعها في المناطق العشوائية المحرومة من المياه بأطراف القاهرة وقرى مصر. وتُكرر فى الدارجة المصرية عبارة “ابوك السقا مات” وهى كناية عن انتهاء هذه المهنة وانقراضها فلم تعد موجودة، لذلك تطلق تلك العبارة للتهكم على الاشياء التى انتهت ولن يعود زمانها.. وهى أيضاً إسم رواية قام بتأليفها الكاتب يوسف إدريس وتحمل إسم “السقا مات”