على الشاطىء الغربى لبحيرة ناصر وفى الجهة الخلفية للسد العالى ستقع عينك على آثر من أروع ماتركته الحضارة المصرية القديمة، إنه معبد الملك رمسيس الثانى.
فى بداية المشهد تطل واجهة خرافية منحوتة فى الصخر تنقسم الى مدخلين، المدخل الأول يؤدى الى المعبد الكبير وهو معبد الملك رمسيس، ويتقدمه أربعة تماثيل جالسة للملك فى صورته الإلهية، والمدخل الآخر يؤدى الى المعبد الصغير المخصص للملكة نفرتارى، ويتقدمه ستة تماثيل واقفة اربعة للملك وإثنان للملكة فى صورة الربة حتحور.
مشهد ضخم يأخذك لعالم ساحر ومبدع من الجمال ويعطيك دليلاً على مدى إبداع المصرى القديم فى فن العمارة والنحت.
لكن الأعظم هو أن تعرف ان هذا المكان لم يكن المكان الأصلى للمعبد وقد تم نقله بالكامل فى القرن العشرين إلى مكانه الحالى فما القصة وراء ذلك؟
المعبد القديم:-
فى عهد الملك رمسيس الثانى تم الإنتهاء من تشييد المعبد عام 1206 قبل الميلاد. وهو منحوت بكامله فى جوف الجبل الجنوبى لأسوان على الضفة الغربية للنيل. يمتد طول التمثال الواحد حوالى 20 متراً، ويمتد عمق الواجهة فى الصخر حوالى 64 متراً.
لم يكن الهدف من تشييد المعبد فقط إحتفال الملك بانتصاره فى معركة قادش، بل كان رسالة تبعث على الرهبة وتحذر جيران مصر فى الجنوب وفى الصحراء من الإقتراب أوالعبث مع ملك كهذا.
المعبد وبناء السد:-
بعد بداية العمل فى مشروع السد العالى صارت معابد منطقة أبى سمبل مهددة بالإنهيار نتيجة للفيضان الذى سيحدث بعد إرتفاع منسوب مياه بحيرة ناصر لذا كان لابد من التحرك لإنقاذ هذه الآثار الضخمة.
اليونسكو :-
عام 1959 وجهت مصر نداء الى كل المؤسسات المهتمة بالحفاظ على التراث ومن بينها اليونسكو لمساعدتها فى إنقاذ هذه المعابد من الغرق، وإستجابت منظمة اليونسكو وبدأت العمل مع فريق يضم علماء ومهندسون ومقاولون مصريون ومن مختلف جنسيات العالم، تكلف المشروع فى هذا الوقت حوالى 40 مليون دولار تحملت الحكومة المصرية نصفها.
الصعوبات التى واجهت عملية النقل والإنقاذ:-
لم يكن من السهل فى سيتينيات القرن المنصرم أن تنقل معبد بهذه الضخامة، كان المشهد محير للعلماء، ماهى الوسيلة الأمن والأضمن للحفاظ على تلك القيمة التاريخية.
كان المبعد منحوت بالكامل فى الجبل وليس عبارة عن تماثيل منفصلة، ومعنى ذلك انك لابد ان تنقل الجبل ذاته ليس المعبد فقط.
كذلك كانت المهمة الأصعب ليس فقط نقل التماثيل سليمة بل نقل قلب المعبد ذاته كما هو بنفس تفاصيله، نقل الأروقة المحاطة بالتماثيل، ونقل الحوائط المغطاة برسومات وكتابات هيروغليفية، ان فقد أى جزء من المعبد لهو مسؤلية ليست بالهينة على كل العاملين فى المشروع.
أيضاً كان قدس الأقداس يحتوى على تمثال للملك رمسيس يليه تماثيل لأربعة آلهة، وقد صمم المعبد لكى تدخل الشمس وتتعامد على وجه الملك وثلاثة من الالهة عدا اله العالم السفلى مرتين فى السنة، وان لم يتم نقل المعبد بطريقة سليمة فسيفقد قيمته الهندسية التى ميزته. إذاً فما الحل؟
اقترح العلماء فى البداية ترك المياه تغمر المعبد ثم يبدأوا فى اقامة قبة زجاجية حوله ومن ثم يتم تنقية مياه النيل من الشوائب، ويظهر المبعد للزائرين من السطح مغموراً بالماء، او تتم الرؤية عن قرب من خلال مصاعد زجاجية، لكن هذا الاقتراح لم يلقى القبول لأن المعبد مبنى فى صخر رمى و المياه ستعمل على تفتت أجزاءه بسرعة.
لذا كان الحل الوحيد هو تقطيع المعبد الى اجزاء ومن ثم نقله واعادة تركيبه فى المكان الجديد.
عملية التقطيع:-
فى عام 1964 كان الموقع صاخب بأكثر من 5000 الاف مهندس ومقاول وعامل ، كان المشهد عظيماً فالجميع يتحضر لأكبر عملية انقاذ ونقلى اثرى فى القرن باكمله، والمهمة ليست سهلة، ان عليهم نقل أكبر من 250 الف طن وهى اجزاء المعبد ومن ثم نقل حوالى 300 الف طن من الحجارة وهى الجبل الصخرى الذى نحت داخله فالامر لم يكن سهلاً ابداً.
كان الحل الأمثل هو فصل الجبل عن المعبد وبعدها يتم تقطيع المعبد الى اجزاء. استغرقت عملية فصل الجبل عن المعبد حوالى 7 شهور وكان يعمل يومياً اكثر من 500 عامل ولم يكن من الممكن استخدام اى وسيلة غير المناشير والمطارق.
بعد فصل المعبد عن الجبل اصبح مُهيئاً ليتم تقطيعه الى أجزاء، لكن فكرة تقطيعة الى أجزاء متساوية كانت غير سديدة لانها ستجعل منه اشبه برقعة الشطرنج، لذا كان فصل الواجهة عن جسم المعبد، ثم جاء فصل الرؤوس الأمامية للتماثيل، وقد تم تغطية الرؤوس بضمادات قوية حتى لايتفتت الصخر اثناء عملية التقطيع.قسم المبعد تقريباً الى أكثر من 1500 قطعة، وكانت عملية التقطيع تتم ليل نهار قبل أن يغمر الفيضان كل شىء.
النقل:- بعد الانتهاء من تقطيع اجزاء المعبد كانت عملية النقل هى الاصعب، فمن الصعب حمل القطع الضخمة من خلال الرافعات فقط، لذا كان يتم تزويد الرافعات بأسياخ حديدية يتم غرسها داخل القطع بعناية فائقة ومن ثم نقلها الى المكان المخصص للتخزين.
التركيب:- بدأ التركيب فى جسم المعبد كما كان فى السابق، وكانت الواجهة هى المرحلة الأخيرة فى عملية التركيب، وقد تم تركيب الرؤوس بعناية وبطرق هندسية مختلفة ودون استخدام اى مواد لاصقة .
وكان لابد من وضع ثقل فوق المعبد يوزاى نفس ثقل أحجار الجبل الصخرى، لذا تم بناء قبة خرسانية اتخذت نفس شكل الجبل وتم تغطيتها بنفس الوزن من الأحجار الصخرية فى الموقع الأصلى، وبعد الانتهاء من القبة تم ترميم الأجزاء المكسورة باستخدام طين صخرى من نفس مادة الجبل، وقد تم الانتهاء من اعمال التركيب فى ابريل عام 1068.
كان التحدى الأخير لكل من شارك فى هذه العملية هو اثبات ان المعبد نقل بطريقة صحيحة تمكن الشمس من التعامد على وجه الملك مرتين فى السنة وقد حدث ذلك ومازال يحدث الى يومنا هذا.
وهكذا قدر لرمسيس الثانى ان يشهد إنجاز حضارى اجتمع فيه الماضى والمستقبل معاً،اجتمع فيه الشرق والغرب ، فالعالم كله بمختلف جنسياته مد يده لتاريخ يمتد فى عمق الزمن لاكثر من 5 الاف سنة وقرر ان ينقذه ويمنعه من الاندثار.