لا يوجد مكان فى الحياة حولنا لاتحاصرنا فيه الإعلانات، على الطرقات السريعة وفى الشوارع الضيقة، على شاشات التلفزيون وعلى صفحات التواصل الإجتماعى والجرائد والمجلات. لامفر من إعلانات عن الأغذية المعلبة والسريعة والمشروبات والمجمعات السكنية إلخ إلخ
ويبدو التساؤل هنا منطقياً، هل فعلاً تؤثر تلك الإعلانات على سلوك المستهلك؟ بالطبع هناك نسبة كبيرة من المبيعات لأى منتج تعتمد على الحملات الدعائية المصاحبة لطرحه فى الأسواق. لكن ربما لايكون الأمر بالقدر الذى نتخيله، هذا مايتجه إليه الكاتب “روبرت هيث” فى كتابه إغواء العقل الباطن، الذى يتحدث فيه عن التأثير العاطفى الذى تبثه الحملات الإعلانية للتأثير على الجماهير، ويميل رأى هيث أن نجاح المعلنين ليس دليل على قدرتهم على الإقناع، لكن على قدرتهم على خلق قصة تؤثر فى المستمع وتؤدى إلى تغيير سلوكه تجاه المنتج وشرائه.
ويضرب هيث مثلاً على دراسة حالة تخص السيارة “رينو كليو”
في عام ١٩٩٢، عانت بريطانيا من موجة ركود نجمت عن التضخم ومشكلات تعرضت لها عملتها، وتصادف أن كانت شركة رينو للسيارات قد اختارت ذلك العام تحديدا لإطلاق سيارتها صغرية الحجم، والتي أطلقت عليها اسم «كليو». كان جانب التميُز الذي رأتْه رينو في سيارتها كليو يتمثل في أنها تجمع بين فخامة المظهر الذى يضاهى السيارات الأكبر حجما وبين ما تتميز به السيارات الصغيرة من طابع عملي وقدرة على المناورة أثناء السير.
وهكذا طلبت رينو من وكالة الإعلانات “ببليسيز” تصميم إعلان يتسم بالبساطة الشديدة وتوصيل رسالة مفادها أن السيارة رينو كليو سيارة صغرية وعملية وفخمة، وبعد نشر الإعلان صارت مبيعات السيارة رينو كارثية وشهدت ركوداً واضحاً، فلجأت شركة الإعلانات “ببليسيز” إلى اعلان بشكل مختلف، اظهرت اللقطة الأولى فى الإعلان أب وابنته من الطبقة الأرستقراطية يجلسان تحت أشعة الشمس فى مكان خارج المنزل ويغلب عليهما النعاس، ثم تقوم الفتاة بالتسلل خفية الى السيارة رينو وتقوم بقيادتها لتقابل حبيبها، ثم يقوم الاب هو الاخر باستقلال سيارته ليذهب ليقابل حبيبته التى جلب لها باقة من الورود، ولما تعود الفتاة تجد ابيها مازال نائماً، وفى خلفية المشهد هناك تعليق بصوت رخيم يقول “ربما تبحث عن سيارة صغيرة وعملية، ولكنك ترغب في أن تكون تلك السيارة فخمة أيضا. ها نحن نقدمها لك: كليو صغرية الحجم، فخمة ومثالية التصميم.”
وما إن تمت إذاعة الإعلان إرتفعت مبيعات السيارة بشكل كبير، ويفسر هيث ذلك بأن المعلن لم يقم بإقناع المستهلك بأن السيارة مفيدة لك وعملية وسريعة فى نفس الوقت، لكنه قام برسم صورة ذهنية داخل عقل المستهلك أن السيارة تستطيع منحك تلك الصورة الأرستقراطية التى ظهر عليه الأب وابنته فى الإعلان، بالرغم أن السيارة مطروحة للمستهلك المتوسط.
هذا مايذكره روبرت هيث فى إطروحته حول الإعلان وكيف يؤثر على عقلنا، ولكن للموضوع جوانب سلبية إستطاعت الإعلانات خلقها دون وعى منا، نذكر منها:-
اولاً:- الإعلانات تشكل لدى المستهلك حالة من عدم الرضا
تقدم الإعلانات دائماً صورة نموذجية ومثالية لما يجب على الأشياء أن تكونه، ففى إعلانات منتجات التجميل تقدم “موديل” الإعلانات الفتاة فى صورة مثالية، فى الجسد ولون البشرة والشعر وتخلق لدى المستهلكين ارادة لكى يصبحوا مثلها على تلك الصورة، فيسعى الجميع إلى الكمال، فيبدأ الناس بالسعى الى إكتساب ذلك الجمال المرسوم على شاشات التلفزيون واغلفة المجلات، وبالتالى لن يرضى أحد عن شكله لانه لن يعتبره مثالى أبداً.
لكن الحقيقة أن تلك الصور ليس سوى صور معدلة بالإضاءات وبرامج معالجة الصور ليس إلا.
ثانياً:- الإعلانات تقدم للأغنياء وليس لك
تقدم الإعلانات دائماً منتج وتطالبك بشرائه، لأجل هذا الهدف وجد الإعلان، لكن في معظم الأحيان تقدم لك الإعلانات منتج انت لست فى حاجة اليه، لكنها تستطيع أن تخلق بداخلك تلك الحالة، تخاطبك الإعلانات بمقولة “ان حياتك لاتصلح دون هذا الشىء”، فتلك وجبات تمنحك السعادة، وتلك السيارة تجعلك متميز اجتماعياً، والمنتجع السكنى سيمنحك الخصوصية التى لن تجدها فى مكان أخر وسط جيرانك وعارفك، كل تلك الرفاهيات ليس فى متناول المستهلك البسيط او المتوسط، لكن محاولة اثبات انه من الضروريات تغير العادات الإستهلاكية له وبالتالى يبدأ فى تحميل نفقاته فوق طاقتها لكى يحقق مايظن انه يحتاجه.
ثالثاً:- الإعلانات تجعلنا نشعر أن كل مانحتاجه يمكن شرائه او بيعه
الاعلانات تجعلنا نعتقد ان كل شىء نريده يمكن شرائه، لذا انها تجبرملايين الى البشر الى استهلاك انفسهم فى سوق العمل للمزيد من الكسب، لتحقيق مزيد من الاستهلاك بالرغم أن هناك العديد من الأشياء التي لن يكون الإستغناء عنها شيئاً كارثياً حقاً.
إذا فما من شك ولو بنسبة ما أن الإعلانات تحتوى على قدر كبير من الخطر وتحتاج من المستهلك قدرة اكبر من الوعى لكى يستطيع فعلا تفهم الرسائل التى تصل اليه، ولكى يفند حقاً ما الذى يمثل ضرورة لحياته وما الذى يمثل عبئاً عليه.
المصادر
إغواء العقل الباطن “روبرت هيث”