تتعقد سلوكيات الناس والطريقة التي يكفرون بها نتيجة لتأثرها بعدد كبير من العوامل. الوراثة والصحة الجسدية، والنفسية، والخبرات الشخصية والحالة العاطفية، بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية التي تشمل الأسرة والمجتمع والثقافة. كما تلعب البيئة المادية والمعتقدات الروحية والأخلاقية دورًا أيضا. ولا يمكن إغفال تأثير الوضع الاقتصادي والمستوى التعليمي في تحديد اتجاهات السلوك. هذه العوامل جميعها تتداخل لتصنع قرارات الإنسان وتفاعلاته مع محيطه.
مع كل هذه العوامل والتعقيد نرى تحيزات معرفية مثيرة في هذه المقالة، سوف نتناول بعض الحقائق المثيرة حول سلوك البشر.
1- التأثر بمجرد التعرض
تأثير مجرد التعرض هو ظاهرة نفسية يميل الناس فيها لتطوير تفضيل للأشياء لمجرد أنهم يعرفونها وعلى دراية بها لأنهم تعرضوا لها بشكل متكرر، حتى لو لم يكونوا على وعي بذلك. لوحظ هذا التاثير في مجموعة واسعة من سلوكيات البشر، من التفاعلات الاجتماعية وحتى سولكيات المستهلكين.
تشير الأبحاث إلى أن تأثير مجرد التعرض قد يرجع جزئيًا إلى حقيقة أن التعرض المتكرر لمحفز (مثل شخص أو شيء أو علامة تجارية) يسهل على أدمغتنا معالجة هذا التحفيز والتعرف عليه. قد تفسر أدمغتنا هذه الطلاقة المتزايدة في المعالجة على أنها علامة على أن المنبه آمن أو مألوف أو حتى ممتع ، مما يؤدي بنا إلى تطوير موقف إيجابي أو تفضيل تجاهه.
ومن المثير للاهتمام ، أن تأثير مجرد التعرض يبدو قائماً حتى عندما يتعرض الناس لمثيرات لا شعورية (أي بدون وعي واع)، مما يشير إلى أن أدمغتنا يمكنها معالجة المعلومات وتطوير التفضيلات حتى عندما لا نكون مدركين لها بوعي.
2- تأثير المتفرج
تأثير المتفرج هو ظاهرة اجتماعية تظهر حينما يتكاسل الأفراد عن التدخل في حالات الطوارىء عند وجود أشخاص آخرين في مكان الحادث. يرجع السبب في ذلك لشعورهم بمسؤلية أقل في وجود أشخاص آخرون مفترضين أنهم سوف يتحملون المسؤولية.
لوحظ تأثير المتفرج لأول مرة في جريمة قتل عام 1964 التي تعرضت لها كيتي جينوفيز في مدينة نيويورك. والتي رغم صراخها طلبًا للمساعدة، لم يتصل أي شخص من ال38 الذين سمعوها بالشرطة. أثار هذا الحادث علماء النفس للبحث في تأثير المتفرج، والذي لوحظ منذ ذلك الحين في مجموعة متنوعة من السياقات.
على سبيل المثال ، في تجربة كلاسيكية قام بها علماء النفس بيب لاتاني وجون دارلي ، تم وضع المشاركين في غرفة وطُلب منهم ملء استبيان. أثناء عملهم، بدأ الدخان يملأ الغرفة. عندما كان المشاركون بمفردهم ، أبلغ 75 ٪ منهم عن الدخان في غضون دقيقتين. ومع ذلك، عندما كان هناك أشخاص آخرون في الغرفة لم يبلغوا عن الدخان، أبلغ 10٪ فقط من المشاركين عن حدوثه في نفس الإطار الزمني.
يُعزى تأثير المتفرج إلى عوامل مثل انتشار المسؤولية والتأثير الاجتماعي والخوف من الأخطاء الاجتماعية. من أجل مكافحة تأثير المتفرجين، يوصى غالبًا بدعوة الأفراد بوضوح وبشكل خاص للمساعدة في حالات الطوارئ، بدلاً من الاعتماد على افتراض أن شخصًا آخر سيتخذ إجراءً.
3- تأثير المهام المؤجلة
تأثير زيجارنيك هو ظاهرة نفسية تتمثل في أن الناس يتذكرون المهام غير المكتملة أو المقطوعة بشكل أفضل من المهام المكتملة. لقد لاحظت هذه الظاهرة لأول مرة الدكتورة بلوما زيجارنيك، عالمة النفس، في العشرينات من القرن الماضي، حيث لاحظت أن النوادل في مطعم كان لديهم ذاكرة أفضل للطلبات التي لم يتم تقديمها للزبائن من غيرها التي تم تقديمها بالفعل.
يشير تأثير زيجارنيك إلى أنه عندما نبدأ مهمة ما، فإنه يخلق توترًا عقليًا أو “حلقة مفتوحة” في ذهننا نريد إغلاقها عن طريق إنهاء المهمة. إذا تم ترك المهمة غير مكتملة، فإن التوتر يبقى ومن المرجح أن نتذكره.
يلعب تأثير زيجارنيك دوراً هامًا في إدارة الضغوط النفسية والإنتاجية. حيث يمكن باستخدام أدوات التذكير وتقنيات إدارة الوقت أن نقلل التوتر العقلي الناتج عن المهام غير المكتملة، وزيادة التركيز والإنتاجية.
يمكن الإستفادة من تأثير زيجارنيك في مجالات مثل التعليم والدعاية والإعلان، بتعمد خلق حالة من الغموض أو سؤالًا بدون إجابة يجعل المتلقي في حالة من التفكير تجعل عقله أكثر قدرةً على تذكر المعلومات.
4- تأثير الأسبقية
تأثير الأسبقية هو التحيز المعرفي الذي يصف ميل الناس لتذكر وترتيب أولويات المعلومات التي واجهوها أولاً، بدلاً من المعلومات التي واجهوها لاحقًا. تتجلى هذه الظاهرة بشكل خاص عندما يتم تقديم قائمة بالعناصر التي يجب تذكرها.
في مثل هذه الحالات، من المرجح أن يتم تذكر العناصر الموجودة في بداية القائمة أكثر من العناصر الموجودة في المنتصف أو في النهاية. وذلك لأن العناصر الأولية تحظى بمزيد من الاهتمام ويتم تشفيرها بسهولة أكبر في الذاكرة ، بسبب عدم وجود أي معلومات منافسة. على النقيض من ذلك ، فإن العناصر المعروضة لاحقًا في القائمة قد تطغى عليها العناصر السابقة أو تزاحمها، وبالتالي تقل احتمالية تذكرها.
يمكن أن يكون لتأثير الأسبقية آثار مهمة في مجموعة متنوعة من السياقات، بما في ذلك الإعلان والخطابة العامة والتدريس. على سبيل المثال، المتحدث الذي يريد التأكد من أن جمهوره يتذكر رسالة رئيسية قد يختار تقديمها أولاً في عرضه التقديمي، بحيث يكون من المرجح أن يتم ترميزها في ذاكرة الجمهور.
تجدر الإشارة إلى أنه بينما يصف تأثير الأولوية ميل الناس لتذكر العناصر الأولى في القائمة، هناك أيضًا ظاهرة ذات صلة تسمى تأثير الحداثة، والتي تصف ميل الناس لتذكر العناصر الأخيرة في القائمة. بمعنى آخر، قد يكون الأشخاص أيضًا أكثر عرضة لتذكر المعلومات التي واجهوها مؤخرًا، لأنها لا تزال حاضرة في ذاكرتهم.
5- تأثير الهالة:الجمال يخدع العقل
نميل إلى ربط الصفات الإيجابية (كالذكاء والصدق) بالأشخاص الجذابين، حتى دون دليل. هذه الظاهرة المسماة “تأثير الهالة” تفسر لماذا يُفضل المدراء توظيف أشخاصٍ وسيمين، أو لماذا يُعتقد أن التلاميذ الجذابين أكثر ذكاءً. الجمال الخارجي يخلق “هالة” تشوه تقييمنا الموضوعي.
6- النبوءة المحققة لذاتها
النبوءة التي تتحقق ذاتيا هي ظاهرة نفسية تحدث حينما تؤثر معتقدات الشخص أو توقعاته حول حدث أو نتيجة على سلوكه بطريقة يجعله يتدخل لا إراديًا لجعل توقعه أكثر إحتمالية للتحقق.
على سبيل المثال، إذا كان المعلم يعتقد أن الطالب غير قادر على النجاح الأكاديمي، فقد يعامل هذا الطالب دون وعي بطريقة مختلفة أو يكون لديه توقعات أقل لأدائه. يمكن أن تقود هذه المعاملة الطالب إلى الأداء الضعيف وتأكيد اعتقاد المعلم.
باختصار، يمكن لمعتقداتنا وتوقعاتنا عن أنفسنا والآخرين تشكيل سلوكنا والتأثير في النهاية على النتائج التي نحصل عليها، أحيانًا يحدث هذا بتوافق مع معتقداتنا عن أنفسنا.
7- تغير الشخصية مع اللغة
تُعرف هذه الظاهرة باسم “تبديل الشفرة”. أظهرت الدراسات أن الناس قد يتبنون دون وعي معايير وهويات ثقافية مختلفة مرتبطة بكل لغة يتحدثونها، والتي يمكن أن تؤثر على سلوكهم وعواطفهم وحتى شخصياتهم. على سبيل المثال، قد يشعر الشخص ثنائي اللغة بمزيد من الحزم والتوجيه عند التحدث بلغة واحدة، بينما يشعر بمزيد من الأدب والتحفظ عند التحدث بلغة أخرى. يمكن أن يؤثر تبديل الشفرة أيضًا على التفاعل مع الآخرين والحكم عليهم، اعتمادًا على اللغة المستخدمة.
9- لغة الجسد: الوقفة القوية تُعزز الثقة
حتى لو كنت غير واثق، فإن “تزييف” الوقفة قد يغير فعليًا مشاعرك. أشارت عالمة النفس “إيمي كادي” إلى أن اتخاذ وضعيات جسدية مفتوحة (مثل الوقوف بشكل مستقيم) لمدة دقيقتين ترفع مستويات هرمون التستوستيرون ويقلل الكورتيزول (هرمون التوتر)، مما يعزز الثقة.
10- الذاكرة العاطفية: مشاعرك تلون ذكرياتك
تخزن الذاكرة الأحداث المصحوبة بمشاعر قوية بدقة أكبر، لكن المشاعر الحالية تؤثر على استرجاعها. مثلاً، إذا كنت حزينًا، ستتذكر المواقف المحزنة بسهولة (تأثير التطابق المزاجي). الحالة المزاجية الحالية للشخص تؤثر بشكل كبير على استرجاع الذكريات التي تتناسب مع هذا المزاج. عندما يكون الإنسان سعيدًا، يميل إلى تذكر المواقف السعيدة أكثر ، والعكس. هذا التأثير يعكس العلاقة الوثيقة بين المزاج والذاكرة، حيث يبدو أن الحالة العاطفية تعمل كمرشح يساعد الدماغ على اختيار نوعية الذكريات التي يتم استدعاؤها.
أظهرت دراسة حديثة أجراها باحثون من معهد جورجيا للتكنولوجيا أن الاستماع إلى الموسيقى لا يقتصر على تحفيز الذكريات فحسب، بل يمكنه أيضًا تغيير كيفية تذكُّر الناس لها. في هذه الدراسة، طُلب من المشاركين حفظ قصص قصيرة محايدة عاطفيًا، ثم استرجاعها أثناء الاستماع إلى موسيقى إيجابية أو سلبية. أظهرت النتائج أن الموسيقى العاطفية أثرت على استرجاع الذكريات، حيث أضاف المشاركون عناصر عاطفية إلى القصص المحايدة. كما أظهرت فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي زيادة في نشاط اللوزة الدماغية والحُصين، المرتبطين بالمعالجة العاطفية والذاكرة، عند استرجاع القصص مع الموسيقى. تشير هذه النتائج إلى أن الموسيقى يمكن أن تؤثر على كيفية تذكرنا للماضي،ببالرغم من الدراسة لا تربط بين الذاكرة والعواطف إلا أنها تثبت التفاعل المعقد بين الذاكرة والعاطفة والموسيقى.
في النهاية، يمكن للمعرفة ببعض الحقائق عن السلوك الإنساني أن تساعد في تحسين قدرتنا على اتخاذ القرارات، وتحسين العلاقات، وزيادة الوعي بالسلوك البشري وفهمه والإنتباه لمدى تعقيده.